بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
صاد بعض المسلمين حمار وحش في أيام الحجّ بمكّة فرآه رجل آخر فقال له لقد حرم عليك أكله لأنّك صدته
في الأيام الحرم ، فنزلت هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ) أي أوفوا بالعهود التي عاهدتم الله ورسوله
عليها بأن تطيعوا
أوامره وتجتنبوا معاصيه فلماذا تصيدون في الأيام الحرم (أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ) أي المبهم من الأنعام ، يعني
التي أبهم
عليكم أمرها لا تعلمون هل هي حلال أم حرام ، وهي الأنعام الوحشية كالظبي والوعل وحمار الوحش وغير ذلك مِمّا
يأكل
النباتات والحبوب ، والمبهم من الأنعام هي التي لم يأتِ ذكرها في القرآن .
{وَأَنزَلَ لَكُم
مِّنْ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ ..الخ} ثمّ استثنى منها ما كان محرّماً فقال (إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ) في القرآن من تحريمها
وذلك
كالخنزير والميتة والدم (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) يعني لا يحلّ لكم صيدها وقت الإحرام وإن كان أكلها حلالاً
(إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) فلا معارض لحكمه .
2 – لَمّا فتح النبيّ مكّة أمر مناديه فنادى : "ألا لا يحجّنّ اليوم مشرك ولا يطوف بالبيت عريان" . فجاء بعد ذلك
أناس من
أطراف مكّة لِيحجّوا ويسلموا ، ولم يعلم المسلمون بنيّاتِهم فتعرّض لهم بعض المسلمين بأذى وأخذوا هديهم
وقلائدهم
فعاتبهم الله على ذلك إذ نزلت هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللّهِ) أي معالم دينه ، وهي الأمكنة
التي
يُتعبّد لله فيها , والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة البقرة {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَآئِرِ اللّهِ} ، (وَلاَ الشَّهْرَ
الْحَرَامَ)
يريد به شهر ذي الحجّة ، والمعنى : لا تحِلّوا المحرّمات بمكّة لأنّها من شعائرالله ولا في شهر ذي الحجّة لأنّه
من الأشهرالحرم
، فلا تحِلّوا الصيد فيه (وَلاَ الْهَدْيَ) أي لا تأخذوا الهدي جبراً بدون رضا من أهله ، والهدي ما كان يهديه الحاج
إلى ربّ
البيت من بعير أو بقرة أو شاة (وَلاَ) تحلّوا (الْقَلآئِدَ) أي لا تأخذوها بغير رضا أهلها ، وهي أنعام يجعلون في رقبتها
قلادة
علامة أنّها نذيرة ينذرونها للبيت (وَلا) تحلّوا أناساً (آمِّينَ) أي قاصدين (الْبَيْتَ الْحَرَامَ) أي لا يحلّ لكم أخذ أموال
أناس
قاصدي البيت للحجّ الذين (يَبْتَغُونَ فَضْلاً) أي ثواباً (مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا) منه بقصد الحجّ والاستسلام (وَإِذَا حَلَلْتُمْ)
من
الإحرام (فَاصْطَادُواْ) من بهيمة الأنعام يباح لكم حينذاك (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ) أي ولا يكسبنّكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي بغض قوم ،
لأجل
(أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) في الماضي ، يعني فلا يحملكم البغض على كره هؤلاء لأنّهم منعوكم عن العمرة في
عام
الحديبية (أَن تَعْتَدُواْ) عليهم في الأشهر الحرم بأخذ هديِهم وقلائدهم فإنّهم جاؤوا ليسلموا فتحابّوا (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى)
أعمال
(الْبرِّ) فيما بينكم (وَالتَّقْوَى) بترك العداوة (وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ) أي على المعاصي (وَالْعُدْوَانِ) أي التعدّي على
الحاج
(وَاتَّقُواْ اللّهَ) ولا تخالفوا أوامره (إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) فخافوا عقابه ولا تعتدوا على حجّاج بيته .
3 – (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) من الأنعام (وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ) أي وما ذُبِح لغير الله من النذور
والقرابين
فهو حرام ، وذلك ما كان المشركون يذبحونه للأصنام . أمّا اليوم فيذبحون الأنعام للمشايخ والأئمة والأنبياء وهذا
لا يجوز
ذبحه ولا أكله ولا توزيع لحمه على الناس فهو حرام كلحم الخنزير (وَالْمُنْخَنِقَةُ) وهي التي تربط بحبل ثمّ تسقط من
مكانِها
وتبقى معلّقة بحبلِها حتّى تموت ، وتوجد طائفة من الناس بالهند يخنقون الشاة ولا يذبحونَها ثمّ يأكلونَها فهذا
لا يجوز
(وَالْمَوْقُوذَةُ) أي المضروبة بعصى أو حجر أو غير ذلك فتموت من تلك الضربة فهي حرام أيضاً (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) وهي
الساقطة من
الجبل إلى الوادي فأصابها الردى يعني أصابها الموت ، أو الساقطة من سطح الدار ، أو الساقطة في بئر أو حفرة
، أو التي
تسحقها سيّارة أو قطار وماتت يحرم أكلها (وَالنَّطِيحَةُ) وهي التي ينطحها غيرها فتموت يحرم أكلها أيضاً (وَمَا أَكَلَ
السَّبُعُ) أو
الذئب ، يعني الفريسة التي يفترسها بعض الوحوش الضارية فيأكل بعضها ويترك الباقي فهو حرام أيضاً (إِلاَّ مَا
ذَكَّيْتُمْ)
من هذه
الأنعام التي سبق ذكرها ، يعني إلاّ ما ذُبِحت قبل الموت .
أمّا الصيد فيمكنك أن تذكر اسم الله عليه عند إطلاق الطلقة فتقول بسم الله والله أكبر . فإذا أصابته الطلقة
ومات فاذبح
ه حالاً لأنّ الطلقة تقوم مقام الذبح على شرط أن تذكر اسم الله عليه . (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) فهو حرام أيضاً ،
والنصب هي
أحجار كبيرة كان المشركون يذبحون الأنعام عليها قرباناً للأوثان والشاهد على ذلك قول الشاعر:
وذا النصب المنصوب لا تنسكنّه ولا تعبدِ الشيطانَ والله فاعبُدا
ومعناه وصاحب النصب المنصوب على الكعبة لا تعبدنّه ، ويريد به هبلاً .
(وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ) أي وحرّم عليكم استقسام الذبيحة بالأزلام ، وهي سهام يكتبون على بعضها أمرني ربّي
ويكتبون على
الآخر نهاني ربّي ، أو يضعون عليها أرقاماً فهذا السهم له حصّة واحدة وذاك له حصّتان والآخر له ثلاث وهكذا
كلّ سهم له
حصص خاصّة دون غيره وهي لعبة كالقمار ، فكانوا يذبحون بقرة أو شاة ويتقارعون عليها بتلك السهام فتقع
الخسارة على
رجل منهم فيدفع ثمنها ويقسون لحمها بينهم1 (ذَلِكُمْ) إشارة إلى القمار والاستقسام بالأزلام (فِسْقٌ) أي ذلك من
أعمال الفسقة
الذين يريدون أن ينهبوا أموال أصحابهم بالقمار (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ) أي يئسوا من إرجاعكم إلى
دينهم ،
لأنّهم كانوا يقاتلون ويناضلون لِيرجعوكم إلى دينهم ولكنّهم الآن يئسوا من ذلك لِما رأوا من كثرتكم وقوّتكم ونصركم
عليهم في جميع
الأوقات (فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ) أي خافوني فلا تخالفوا أوامري (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) من تحليل الشيء
وتحريمه
(وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بأن هديتكم للإسلام وأنزلت إليكم القرآن ونصرتكم على المشركين (وَرَضِيتُ لَكُمُ
الإِسْلاَمَ دِينًا)
أي رضيت لكم الاستسلام لأمر الله منهجاً (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى أكل لحوم هذه المحرّمات وكان (فِي مَخْمَصَةٍ)
أي في مجاعة
(غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ) أي غير مائل لإثم ، يعني فمن كان مضطرّاً إلى أكل الميتة وما عدّد الله تحريمه عند المجاعة
الشديدة
ولم يكن قصده عصيان أمر الله فلا بأس عليه في ذلك (فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ) للتائبين المذنبين فكيف بِمن كان من
الجائعين
(رَّحِيمٌ) بالمساكين .
---------------------------------------------
1 ومثال ذلك يستعمل اليوم وخاصّةً في شهر رمضان شهر الطاعة والغفران إذ ترى كثيراً من الشباب يجلسون
في المقاهي ويلعبون القمار (صينية) فتقع الخسارة على واحد منهم أو جماعة فيشترون البقلاوة ويقسمونها بينهم .
41 – (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ)
وهم المنافقون
(وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ) أي اليهود الذين هم (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) الذي افترته أحبارهم ، ثمّ (سَمَّاعُونَ) منك (لِقَوْمٍ) أي
لأجل قومٍ
(آخَرِينَ) من اليهود الذين (لَمْ يَأْتُوكَ) يعني هؤلاء اليهود الذين يستمعون منك ينقلون الفتوى إلى قومٍ لم يأتوك ،
وهم أهل
خيبر زنى فيهم محصنان فكرهوا رجمهما فبعثوا رهطاً من قريظة ليسألوا النبيّ عن حكمهما لعلّهم يجدون عنده
تخفيفاً في
حكمهما ، (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) الذي في التوراة الذي هو في حكم الزاني من القتل إلى الجلد (مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ)
التي وضعها
الله في التوراة من حكم الزاني ، يعني يبدّلونه (يَقُولُونَ) لِمن أرسلوهم (إِنْ أُوتِيتُمْ هَـذَا) الحكم المحرّف ، يعني
إن أفتاكم به
محمّد (فَخُذُوهُ) منه ، أي فاقبلوه (وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ) يعني إن أفتاكم بخلافه (فَاحْذَرُواْ) أن تقبلوه (وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ)
أي إضلاله
بسبب ظلمه للناس (فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا) من هدايته (أُوْلَـئِكَ) الفاسقون واليهود الكافرون (الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ
اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من الرين بسبب نفاقهم وظلمهم (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) بين الناس بِما يفتَضحون به من سوء
أعمالهم وكذب
أقوالهم
(وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) يعَذَّبون به في جهنّم .
44 – (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى) لبني إسرائيل (وَنُورٌ) لمن يهتدي بِها منهم (يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ) السابقون الذين
هم من بني
إسرائيل (الَّذِينَ أَسْلَمُواْ) أي استسلموا لأوامر ربِّهم وانقادوا لدينه (لِلَّذِينَ هَادُواْ) أي يحكمون لليهود بِما في التوراة
ويعلّمونهم
أمور دينهم (وَالرَّبَّانِيُّونَ) أي الكهنة المنسوبون للربّ يعني العبّاد (وَالأَحْبَارُ) أي العلماء (بِمَا اسْتُحْفِظُواْ) أي بِما استودِعوا
(مِن كِتَابِ اللّهِ) يعني التوراة (وَكَانُواْ) أي الربّانيّون والأحبار (عَلَيْهِ) أي على الحكم في الرجم والقتل وغير ذلك من أحكام
التوراة (شُهَدَاء) أي حاضرون وشاهدون يرَون بأعينهم ويسمعون بآذانِهم فكيف يبدِّلونه بعد ذلك ؟
ثمّ أخذ سبحانه في تحذير أحبار اليهود الموجودين في زمن النبيّ وتهديدهم بأن لا يبدّلوا أحكام التوراة خوفاً من رؤسائهم
أو رغبةً في المال كما فعل الذين من قبلهم فقال (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ) أيّها الأحبار (وَاخْشَوْنِ) أي خافوني (وَلاَ تَشْتَرُواْ) أي
ولا تستبدلوا (بِآيَاتِي) أي بتغييرها (ثَمَنًا قَلِيلاً) أي عرضاً يسيراً (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ) في الكتب السماوية
(فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) أي الكاتمون للحقّ .
51- لَمّا انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم اليهود ، آمِنوا قبل أن يصبيكم الله بيوم مثل يوم بدر . فقال مالك بن ضيف
أغرّكم أن أصبتم رهطاً من قريش لا علم لهم بالقتال ؟ أما والله لو أمرونا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد بقتالنا .
فجاء عبادة بن الصامت الخزرجي إلى رسول الله فقال يا رسول الله إنّ لي أولياء من اليهود كثيراً عددهم قويّة أنفسهم شديدة
شوكتهم وإنّي أبرأ إلى الله ورسوله من ولايتهم ولا مولى لي إلاّ الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبيّ لكنّي لا أبرأ من ولاية اليهود
لأنّي أخاف الدوائر ولا بدّ لي منهم . فقال النبيّ با أبا الحبّاب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة بن الصامت فهو لك
دونه . فنزلت فيهم هذه الآيات (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي هو كافر مثلهم (إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) إلى طريق الحقّ .
52 – (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ) يعني المنافقين الذين في قلوبهم شكّ (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) أي يسارعون في ولايتهم و
محبّتهم ، يعني في ولاية اليهود (يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ) يعني نخشى أن يدور الدهر علينا بمكروه ، يعنون الجدب
فلا يميروننا .
فنهاهم الله تعالى عن التفاؤل بالشرّ والاتكال على اليهود فقال (فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) على المسلمين فيأتيكم بسنين
مخصبة ويرزقكم من فضله وينصركم على أعدائكم فلماذا تتشائمون بالجدب (أَوْ) يأتي أعداءكم (أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ) أي هلاك
وعذاب من عند الله ، وذلك إمّا مرض أو هزيمة أو خسارة في الأموال أو في الأنفس أو غير ذلك (فَيُصْبِحُواْ) أي الذين
والَوا اليهود (عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ) من محبّة اليهود (نَادِمِينَ) على أفعالهم وولايتهم .
53 – (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ) إيماناً حقيقياً (أَهَـؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ) يعني المنافقين حلفوا بأغلظ الأيمان
وأوكدها (إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) أي مع المؤمنين بالنصرة على الكافرين ، ولكن تبيّن منهم غير ذلك (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ) أي ضاعت
أعمالهم لأنّهم عملوا بأهوائهم وبطل ما أظهروه من الإيمان لأنّه لم يوافق باطنهم ظاهرهم (فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ) أعمالهم
وأتعابهم ودنياهم وآخرتهم .
54 – (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) .
ذكر عليّ بن هاشم أنّها نزلت في مهديّ الأمّة وأصحابه ، وأوّلها خطاب لِمن ارتدّ بعد وفاة النبيّ وذلك لأنّ قوله تعالى
(فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ) يوجِب أن يكون ذلكم القوم غير موجودين في وقت نزول الخطاب فهو يتناول من يكون بعدهم
وبهذه الصفة إلى يوم القيامة . مجمع البيان الجزء الثالث صفحة 209 .
60 – (قُلْ) يا محمّد لهؤلاء اليهود الذين استهزؤوا بصلاتكم ونقموا منكم (هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ) أي بشرّ مِمّا نقمتم مِنّا
ومن إيماننا فإنّنا آمَنّا بالله وحده ولم نشرك به شيئاً فلنا (مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ) أي ثواباً عند الله ، وليس لنا شرّ كما تزعمون ولكنّ
الشرّ لكم ولأسلافكم الذين أشركوا وعبدوا العجل والبعليم وعشتاروث وهؤلاء (مَن لَّعَنَهُ اللّهُ) أي أبعده الله عن رحمته وأخزاه
(وَغَضِبَ عَلَيْهِ) بسبب كفره وعبادته للأوثان (وَجَعَلَ مِنْهُمُ) أي من أجسامهم البالية (الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ) الموجودة اليوم ، يعني
خلقها من تراب أجسامهم وذلك بعد موتهم ، وهذا تحقير لهم والدليل على ذلك الألف واللام من قوله تعالى (الْقِرَدَةَ
وَالْخَنَازِيرَ) يعني القردة الموجودة اليوم في قارة آسيا خلقها من تراب أجسامهم . ولو أنّه تعالى مسخهم قرَدة وخنازير كما
ذهب إليه المفسّرون لقال مسخناهم قرَدة وخنازير . ويعتقد اليهود بتناسخ الأرواح 1، فيقولون أنّ أرواح الأشرار تدخل في
جسم قرد أو خنزير أو جسم حمار فتتعذّب عقاباً على أعمالها السيّئة ، وأنّ أرواح الصالحين تدخل في أجسام أطفال الأغنياء
والملوك فيتنعّموا ويعيشوا عيشة سعيدة جزاءً لأعمالهم الصالحة 2 . وقوله (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) أي وجعل منهم عبيداً للطاغوت ،
ويريد بالطاغوت نبوخذنصّر فإنّه استعبدهم سبعين سنة كما استعبدهم فرعون سنين عديدة هذا في الدنيا أمّا أرواح المشركين
منهم فيخدمون الشياطين في عالم البرزخ (أُوْلَـئِكَ) الذين عبدوا البعليم وعشتاروث (شَرٌّ مَّكَاناً) مكانهم اليوم (وَأَضَلُّ) من
غيرهم (عَن سَوَاء السَّبِيلِ) أي عن الطريق السويّ .
----------------------------------------------
1 وهذه عقائد وهميّة لا صحّة لها .
2 أثبت علم تكليم النفوس عدم صحّة رأي القائلين بالتناسخ وذلك لأنّ الجسد هو القالب لصنع الروح - المراجع
61 – (وَإِذَا جَآؤُوكُمْ) أي اليهود ، والخطاب موجّه للمسلمين (قَالُوَاْ آمَنَّا) بمحمّد ولكنّهم كاذبون كافرون (وَقَد دَّخَلُواْ)
عليكم (بِالْكُفْرِ) أي بالإنكار لدينكم (وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ) من ديارهم (بِهِ) أي مِن أوّل خروجهم من ديارهم كانوا ناكرين لدينكم
ناقمين عليكم حتّى دخلوا عليكم لم تتغيّر نيّاتهم ولم تتبدّل عقائدهم ولم يأتوا ليسلموا بل جاؤوا لِيتجسّسوا ويسخروا
(وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ) لكم من العداوة والحسد .
62 – (وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ) أي في المعاصي (وَالْعُدْوَانِ) أي الاعتداء على الناس (وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) أي
المال الحرام كالرشوة والربا والقمار وغير ذلك من اغتصاب أموال الناس (لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) حيث تكون عاقبتهم النار .
78 – (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ) أي لعنهم داوود في زبوره (وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي ولُعِنوا في إنجيل
عيسى أيضاً (ذَلِكَ) الخزي لهم (بِمَا عَصَوا) أمر ربّهم (وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ) على أنبيائه .
وإليك ما جاء في الزبور على لسان داوود لَمّا أرادوا قتله في المزمور الثاني عشر قال (1خَلِّصْ يَا رَبُّ لأَنَّهُ قَدِ انْقَرَضَ التَّقِيُّ
لأَنَّهُ قَدِ انْقَطَعَ الأُمَنَاءُ مِنْ بَنِي الْبَشَرِ. 2يَتَكَلَّمُونَ بِالْكَذِبِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ صَاحِبِهِ بِشِفَاهٍ مَلِقَةٍ بِقَلْبٍ فَقَلْبٍ يَتَكَلَّمُونَ. 3يَقْطَعُ
الرَّبُّ جَمِيعَ الشِّفَاهِ الْمَلِقَةِ وَاللِّسَانَ الْمُتَكَلِّمَ بِالْعَظَائِمِ 4الَّذِينَ قَالُوا: بِأَلْسِنَتِنَا نَتَجَبَّرُ. شِفَاهُنَا مَعَنَا. مَنْ هُوَ سَيِّدٌ عَلَيْنَا؟ ) .
وقال في المزمور الحادي والعشرين (8تُصِيبُ يَدُكَ جَمِيعَ أَعْدَائِكَ. يَمِينُكَ تُصِيبُ كُلَّ مُبْغِضِيكَ. 9تَجْعَلُهُمْ مِثْلَ تَنُّورِ نَارٍ فِي
زَمَانِ حُضُورِكَ. الرَّبُّ بِسَخَطِهِ يَبْتَلِعُهُمْ وَتَأْكُلُهُمُ النَّارُ. 10تُبِيدُ ثَمَرَهُمْ مِنَ الأَرْضِ وَذُرِّيَّتَهُمْ مِنْ بَيْنِ بَنِي آدَمَ. 11لأَنَّهُمْ نَصَبُوا
عَلَيْكَ شَرّاً. تَفَكَّرُوا بِمَكِيدَةٍ. لَمْ يَسْتَطِيعُوهَا. 12لأَنَّكَ تَجْعَلُهُمْ يَتَوَلُّونَ. تُفَوِّقُ السِّهَامَ عَلَى أَوْتَارِكَ تِلْقَاءَ وُجُوهِهِمْ. 13ارْتَفِعْ يَا
رَبُّ بِقُوَّتِكَ. نُرَنِّمُ وَنُنَغِّمُ بِجَبَرُوتِكَ.)
وقال في المزمور الخامس والخمسين (9أَهْلِكْ يَا رَبُّ فَرِّقْ أَلْسِنَتَهُمْ لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ ظُلْماً وَخِصَاماً فِي الْمَدِينَةِ. 10نَهَاراً
وَلَيْلاً يُحِيطُونَ بِهَا عَلَى أَسْوَارِهَا وَإِثْمٌ وَمَشَقَّةٌ فِي وَسَطِهَا. 11مَفَاسِدُ فِي وَسَطِهَا وَلاَ يَبْرَحُ مِنْ سَاحَتِهَا ظُلْمٌ وَغِشٌّ.)
وأمّا ما جاء في إنجيل متّى في الاصحاح الثالث والعشرين قال عيسى (لَكِنْ وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ
لأَنَّكُمْ تُغْلِقُونَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ قُدَّامَ النَّاسِ فَلاَ تَدْخُلُونَ أَنْتُمْ وَلاَ تَدَعُونَ الدَّاخِلِينَ يَدْخُلُونَ!)
وجاء في إنجيل لوقا في الاصحاح الحادي عشر قال (وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ لأَنَّكُمْ تُعَشِّرُونَ النَّعْنَعَ وَالسَّذَابَ وَكُلَّ بَقْلٍ
وَتَتَجَاوَزُونَ عَنِ الْحَقِّ وَمَحَبَّةِ اللهِ. كَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلُوا هَذِهِ وَلاَ تَتْرُكُوا تِلْكَ! 43وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْفَرِّيسِيُّونَ لأَنَّكُمْ تُحِبُّونَ
الْمَجْلِسَ الأَوَّلَ فِي الْمَجَامِعِ وَالتَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ. 44وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ لأَنَّكُمْ مِثْلُ الْقُبُورِ
الْمُخْتَفِيَةِ وَالَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَيْهَا لاَ يَعْلَمُونَ!).
وقال (47وَيْلٌ لَكُمْ لأَنَّكُمْ تَبْنُونَ قُبُورَ الأَنْبِيَاءِ وَآبَاؤُكُمْ قَتَلُوهُمْ. 48إِذاً تَشْهَدُونَ وَتَرْضَوْنَ بِأَعْمَالِ آبَائِكُمْ لأَنَّهُمْ هُمْ قَتَلُوهُمْ
وَ
أَنْتُمْ تَبْنُونَ قُبُورَهُمْ.)
95 – (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ) في ايام الحجّ ، والمعنى لا تصيدوا وقت الإحرام فهو حرام ، وهو
صيد البَرّ دون صيد البحر (وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء) عليه (مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) في الخلقة ، فإذا قتل نعامة فكفّارتها
بدنة ، وإذا قتل حمار وحش أو شبيهه فكفّارته بقرة , وإذا قتل ظبياً أو أرنباً فكفّارته شاة (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ) أي يحكم
في الصيد بالجزاء رجلان صالحان من أهل ملّتكم ودينكم فيرَون هل تساوي هذه الكفّارة قيمة الصيد التي قتلها أو تقوم
مقامها في الوزن (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) أي يهديه هدياً يبلغ الكعبة ، أي يذبح تلك الشاة التي اتّخذها كفّارة لإثمه مقابل الكعبة
ويوزّع لحمها على الفقراء (أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ) عشرة يطعمهم إن لم يتمكّن من ذبح بقرة أو شاة ، وإنّما لم يذكر في هذه
الآية عدد المساكين لأنّ ذكرهم قد سبق قبل خمس آيات وذلك في كفّارة الحنث في اليمين بالله وهو قوله تعالى {فَكَفَّارَتُهُ
إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي من أوسط ما تطعمون أهليكم ، أي من أحسن ما تطعمون أهليكم .
وقوله (أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا) يعني أو ما يعادل ذلك الإطعام صياماً ، فيصوم عشرة أيام بدل إطعام عشرة مساكين إن لم
يتمكّن من إطعام الطعام (لِّيَذُوقَ) الصيّاد بهذه الكفّارة (وَبَالَ أَمْرِهِ) أي لتكون هذه الكفّارة عقاباًَ له على فعله (عَفَا اللّهُ) عنه
(عَمَّا سَلَف) بكفّارته (وَمَنْ عَادَ) إلى قتل الصيد في الإحرام ثانيةً (فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ) ولا يعفو عنه (وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ) فينتقم
مِمّن يخالف أوامره .
100 – جاء رجل من المسلمين إلى النبيّ فقال يا رسول الله هل يباح لحم الزاغ1فقال مكروه ، فقال إنّه كثير لو كان حلالاً
لشبعنا منه . فنزلت هذه الآية (قُل) يا محمّد لهذا السائل (لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ) من اللحوم ، أي لا يتساوى لحم
الزاغ ولحم الطيور الأخرى (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ) الطير (الْخَبِيثِ) لأنّ الخبيث لا يُستطاب أكله (فَاتَّقُواْ اللّهَ) في اكل ما تنهون
عنه (يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) في جميع أموركم .
--------------------------------------------
1هو طير أسود كثير الوجود يأكل الجيف ، وكذلك كلّ طير يأكل لحوم الحيوانات الميّتة لا يباح أكله .
101 – سأل النبيَّ رجل من أصحابه فقال إنّ أبي مات على دين الجاهلية فهل يدخل الجنّة أو النار ؟ فقال النبيّ كلّ مشرك
في النار . فقال الرجل كيف ذلك وإنّه كان يطعم الطعام ويحجّ البيت ؟
وقال رجل آخر إنّ أخي كان على دين الجاهلية فهل هو في النار ؟ فقال النبيّ نعم كلّ مشرك في النار . فقال الرجل إنّ
أخي كان يحجّ البيت ويسقي الحاجّ ويتصدّق على الفقراء فكيف يدخل النار ؟
ولَمّا أسلمت الخنساء سألت النبيّ عن أخيها صخر أيضاً ، فقال النبيّ هو في النار . فقالت زدتني حزناً على حزني . وهكذا
كانوا يسألون النبيّ عن أبائهم وأجدادهم ، فنزلت فيهم هذه الآية (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ)
أي تحمّلكم حزناً وهماً (وَإِن تَسْأَلُواْ) النبيّ (عَنْهَا) مرّةً أخرى لا يجِبكم عليها ولكن (حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ) يعني تفهمون
الجواب على ذلك من القرآن ، وذلك من قوله تعالى في سورة المائدة {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ
النَّارُ} ، يعني أنظروا في عقائد آبائكم وأجدادكم وطابقوها مع القرآن وهو ينبّئكم عن مصيرهم فمن كان منهم مشركاً فهو في
النار ومن كان منهم موحّداً تقياً فهو في الجنّة . (عَفَا اللّهُ عَنْهَا) أي عن تلك الأسئلة التي سألتم النبيّ بذلك وأنكرتم عليه
جوابه (وَاللّهُ غَفُورٌ) لمَن تاب (حَلِيمٌ) لا يعجل بالعقوبة .
102 – (قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ) يعني الأمم السالفة سألت رسلها كما سألتم أنتم (ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ) أي منكرين
لتلك الأجوبة كما أنكرتم على النبيّ حين أجابكم .
وكذلك سأل نوح فقال {رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي} أي من أهل بيتي . فردّ الله عليه فقال{إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ
صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} .
103 – كان المشركون يجعلون من أنعامهم حصّة للأصنام وينذرون لها ويذبحون ، ويجعلون لتلك الأنعام المنذورة كنايات
وهي البحيرة ، السائبة ، الوصيلة ، والحامي و يقولون إنّ الله أمرنا بذلك . فردّ الله عليهم بقوله (مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ)
والمعنى ما حكم الله عليكم بذلك ولا أنزله في كتاب ولكنّكم تتّبعون الشيطان بذلك وتتبعون أهواء أنفسكم . والبحيرة هي
الناقة كانت إذا أنتجت خمساً وكان آخرها ذكراً بحروا أذنها وامتنعوا عن ركوبها ولا تُطرَد عن ماء ولا تُمنَع من مرعى فإذا
لقيها المعيي لم يركبها ويكون لبنها للفقراء لِمن يحلبها منهم .
أمّا السائبة هي ما كانوا يسيّبونه من الأنعام في نذورهم ، فإنّ الرجل إذا نذر القدوم من سفر أو البرء من مرض أو ما أشبه
ذلك قال ناقتي سائبة فتُسيَّب للأصنام أي تعتَق لها وكان الرجل منهم يسيّب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم
خدمة أصنامهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل .
أمّا الوصيلة هي في الغنم ، كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم وإذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم ، فإذا ولدت ذكراً وأنثى
قالوا وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم .
أمّا الحامي فهو الذكر من الإبل ، كانت العرب إذا أنتجت من صُلب الفحل عشراً قالوا قد حمي ظهره فلا يُحمل عليه
شيء ولا يُمنَع من ماء ولا من مرعى . مثل هذه عاداتهم وما شاكلها وهذا معنى قوله تعالى (مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ
وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَـكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) أي لا يستعملون عقولهم لأنّهم مقلّدون .
106 – ثلاثة نفر خرجوا من المدينة تجّاراً إلى الشام وهم تميم بن أوس الداري وأخوه عديّ وهما نصرانيّان وابن أبي ماريّة
مولى عمرو بن العاص السهمي وكان مسلماً حتّى إذا كانوا ببعض الطريق مرض المسلم منهم فكتب وصيّته بيده ودسّها في
متاعه وأوصى إليهما ودفع المال إليهما وقال أبلغا هذا أهلي ، فلَمّا مات فتحا المتاع وأخذا ما أعجبهما منه ثمّ رجعا بالمال
إلى أهله ، فلمّا فتّشوا المال فقدوا بعض ما كان قد خرج به صاحبهم فنظروا إلى الوصيّة فوجدوا المال فيها تامّاً فكلّموا
المسيحيّين بذلك فقالا لا علم لنا به .
فرفعوا أمرهم إلى النبيّ ، فنزلت هذه الآية (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ) أي شهادة تلازمون عليها بينكم أيّها
المسلمون (إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) فتقيمون شاهدَين يشهدان على الموصي وعلى الوصيّ وذلك (حِينَ الْوَصِيَّةِ) التي يوصي
بِها المستحضر , والشهود (اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ) أي شاهدين عادلَين (مِّنكُمْ) أيّها المسلمون (أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ) يعني من غير
ملّتكم إن لم تجِدوا شاهدَين من ملّتكم (إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ) يعني إن كان ذلك في السفر (فَأَصَابَتْكُم) أي فأصاب
أحدكم (مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ) أي أصابه مرض الموت أو حادثة أخرى يكون بسببها الموت (تَحْبِسُونَهُمَا) يعني توقفونهما للمحاكمة
والشهادة ، وتكون محاكمتهما (مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ) ليكون ذلك عند اجتماع الناس ليرهبا ويخجلا منهم فينطقا بالصواب (فَيُقْسِمَانِ)
الشاهدان (بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ) في شهادتهما وظننتم أنّهما خانا ، فيقولان (لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) أي لا نستبدل باليمين
بالله ثمناً من مال الدنيا ولو كان المشهود له من أقربائنا (وَلاَ نَكْتُمُ) شيئاً من (شَهَادَةَ اللّهِ) يعني التي أوجبها الله علينا ، فإن كتمنا
من الشهادة شيئاً (إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ) فنستحقّ العذاب على ذلك والعقاب .
107 – لَمّا نزلت الآية الأولى صلّى رسول الله صلاة العصر ودعا المسيحيَّين تميماً وعدياً فاستحلفهما بالله ما قبضنا له غير هذا
ولا كتمناه ، فحلفا ، فخلّى رسول الله سبيلهما .
ثمّ اطّلعوا على إناء من فضّة منقوش بذهب معهم فقالوا هذا من متاعه ، فقالا إشتريناه منه ونسينا أن نخبركم به ، فرفعوا
أمرهما إلى رسول الله فنزل قوله تعالى (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا) إلى آخر الآية ، فقام رجلان من أولياء الميّت أحدهما
عمرو بن العاص والآخر المطّلب بن أبي وداعة السهمي فحلفا بالله أنّهما خانا وكذبا ، فدُفِع الإناء إليهما وإلى أولياء الميّت ، و
كان تميم الداري بعد ما أسلم يقول صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله وأستغفره .
التفسير:
(فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا) أي المسيحيّين (اسْتَحَقَّا إِثْمًا) بأخذهما الإناء الفضّي وأشياء أخرى وبأيمانهما الكاذبة (فَآخَرَانِ يِقُومَانُ
مَقَامَهُمَا) أي مقام الشاهدَين اللذين هما من غير ملّتكم ، يقومان باليمين (مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ) اليمين ، وهم ورثة الميّت
، وإنّما استحقّ عليهم اليمين لأنّ المسيحيَّين ادّعيا أنّهما اشتريا الإناء من الميّت ، وإنّ الورثة أنكروا ذلك ، فصار الإثبات
والبيّنة على من ادّعى واليمين على من أنكر ، وهما (الأَوْلَيَانِ) بالميّت لأنّهما من أقربائه (فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ) على خيانة
المسيحيَّين ويقولان (لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا) ويميننا أحقّ من يمينهما (وَمَا اعْتَدَيْنَا) أي وما جاوزنا الحقّ في اليمين ،
فإن كان يميننا كاذباً (إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ) .
قال الشيخ الطبرسي : وهذه الآية مع الآية التي قبلها من أعوص آيات القرآن إعراباً ومعنىً وحكماً .
110 – (إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ) واصبر على أذى قومك في سبيلي ولا تجزع ، ثمّ
أخذ سبحانه يعدّد بعض ما أنعم عليه سابقاً ولاحقاً فقال (إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) يعني نصرتك بجبرائيل (تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي
الْمَهْدِ) وأنت طفل صغير ، قلنا فيما سبق أنّ عيسى كان في السماء وكان روحاً أي كان من فصيلة الملائكة ولَمّا خلق الله
تعالى جنيناً في رحم مريم أمره أن ينزل إلى الأرض فيدخل في ذلك الجسم فدخل فكان المسيح ، ولَمّا ولدته أمّه كان عالماً
بالكلام وغيره من علومٍ شتّى وإن كان في نظر الناس طفلاً رضيعاً (وَكَهْلاً) أي وتكلّم الناس أيضاً وأنت كهل ، وكان كلامه
معهم بأمور دينية .
ثمّ ذكّره بنعم سابقة ونعم لاحقة فقال تعالى (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ) أي الكتب السماوية السالفة وهي صحف إبرهيم وصحف من
كان قبله من الأنبياء ، وقد قرأها المسيح وتعلّمها قبل نزوله إلى الأرض (وَالْحِكْمَةَ) يعني وأعطيتك الفهم والعلم فتعلّمت علوماً
كثيرة وأنت في السماء . ثمّ ذكّره بنعم لاحقة فقال تعالى (وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) أي وعلّمتك التوراة بأن قرأتها ودرستها في الأرض
وأنت في جسمك المادّي ، وأعطيتك الإنجيل بأن ألهمت تلاميذك إيّاه فكتبوه . ولَمّا انتهى سبحانه من ذكر النعم
العلمية أخذ في تعداد النعم المادّية وهي سابقة ولاحقة أيضاً فقال (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) أي بإذنٍ منّي لك
(فَتَنفُخُ فِيهَا) الروح أي في تلك الطينة فتدخل روحاً من أرواح الطيور فيها (فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي) أي بإرادتي وقدرتي .
ثمّ أخذ سبحانه يذكّره بنعم لاحقة فقال (وَتُبْرِىءُ الأَكْمَهَ) وهو المولود أعمى (وَالأَبْرَصَ) أي الذي في جلده برص ، وهي
بقع بيضاء تخالف لون الجلد (بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى) من القبور أحياء ، فقد أحيا أربعة أشخاص في اليوم الذي ماتوا فيه
بأن أعاد الأرواح إلى أجسادها وذلك باختلاف المكان والزمان (بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ) يعني عن أذاك وإهانتك
فلم يؤذوك كما آذت الأمم أنبياءها ، وذلك بأن جعلت رهبةً منك في قلوبهم لئلاّ يؤذوك (إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ) أي بالبراهين
الواضحة والمعاجز الظاهرة (فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ) بك (مِنْهُمْ) أي من بني إسرائيل (إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ) يعني ما هذه
المعاجز التي جاء بِها المسيح إلاّ سحر بيّن .
المصدر موقع الهدي للقرآن
إقرأ المزيد: مدونة الشباب والمستقبل والربح من الانترنت http://eksabonline1.blogspot.com/2013/04/blog-post_9310.html#ixzz2XMUKd1j6
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق