لم يحقق جمال عبد الناصر انتصارًا عسكريًا في أي من الحروب التي خاضها كقائد، مما يجعله يعكس في مسيرته العسكرية عكس مقولة المجاهد الليبي عمر المختار الشهيرة: "نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت"، التي ألقاها أسد الصحراء قبل إعدامه في 16 سبتمبر 1931. هذه المقولة ترمز إلى الإصرار على النصر أو الشهادة، بينما تجربة ناصر شهدت انسحابات متكررة أمام التحديات العسكرية.
يقدس بعض المؤيدين الذين يُطلق عليهم "المغيبين" جمال عبد الناصر كقائد عسكري محنك، رغم أن قادة مشابهين في العالم الحر يواجهون محاكمات أو توبيخًا شديدًا لفشلهم العسكري. أما في العالم العربي، فقد سحر الخطابات الناصرية المليئة بالحماس، إلى جانب الآلة الإعلامية المهيمنة على المنطقة، الهوامش الشعبية، محولة الهزائم إلى انتصارات رمزية، والخسائر إلى مكاسب سياسية.
لعبت الدعاية الناصرية دورًا كبيرًا في تشكيل الرأي العام، ومن أبرز رموزها الصحفي محمد حسنين هيكل، الذي كان رئيسًا لتحرير جريدة الأهرام. بعد أيام قليلة من هزيمة يونيو 1967، نشرت الجريدة عنوانًا رئيسيًا يقول: "ضاعت سيناء وما سيناء إلا حبات رمال وبقى لنا بطل الأبطال جمال عبد الناصر"، محاولًا تلطيف الصدمة بتركيز الضوء على الرمزية الشخصية للقائد.
هكذا تم التلاعب بالعقول من خلال الإعلام، الذي حول الواقع العسكري المرير إلى سرديات إيجابية، ومع الأسف، ما زال تأثير هذا التلاعب قائمًا حتى اليوم في بعض الدوائر الفكرية والسياسية العربية.
ولنلقِ نظرة على الحروب التي خاضها عبد الناصر، وما هي نتائجها العسكرية الفعلية:
1. حرب فلسطين عام 1948 كانت النزاع الأول الذي شارك فيه جمال عبد الناصر كضابط شاب في الجيش المصري، ضمن الجيوش العربية التي دخلت الحرب ضد إسرائيل بعد إعلان قيامها في 14 مايو 1948. شارك ناصر في معارك شرسة في النقب ورفح، حيث واجه الجيش المصري تحديات لوجستية وتدريبية كبيرة، مما أدى إلى تطويق قواته في الفالوجة. انتهت الحرب بهزيمة عربية شاملة في 7 يناير 1949، مع خسائر بشرية وإقليمية فادحة لمصر، حيث خسرت أجزاء كبيرة من فلسطين، وأثرت هذه التجربة على ناصر لاحقًا في إصلاح الجيش.
2. العدوان الثلاثي أو أزمة السويس في أكتوبر-ديسمبر 1956 حدث ردًا على تأميم ناصر لقناة السويس في 26 يوليو 1956، حيث شنت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل غزوًا مشتركًا لمصر في 29 أكتوبر، مع احتلال جزئي لسيناء والقناة. قاوم الجيش المصري بقوة، لكنه واجه تفوقًا عسكريًا هائلًا من الغزاة. عسكريًا، كانت النتيجة هزيمة جزئية بسبب الانسحاب المصري من سيناء، إلا أنها تحولت إلى نصر سياسي كبير بفضل الضغط الدولي من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، مما أجبر الغزاة على الانسحاب الكامل بحلول مارس 1957، وأعادت السيطرة الكاملة على القناة.
3. حرب اليمن الشمالية، أو التدخل المصري بين عامي 1962 و1967، بدأت بدعم ناصر للثورة الجمهورية ضد الملكية الإمامية في 26 سبتمبر 1962، حيث أرسل عشرات الآلاف من الجنود المصريين (حوالي 70,000 جندي) لمساعدة الجمهوريين، مما حول النزاع إلى حرب استنزاف طويلة الأمد. واجه الجيش المصري مقاومة شرسة من الملكيين المدعومين من السعودية، مع خسائر كبيرة في الأرواح والموارد. انتهت بهزيمة مصرية واضحة، حيث سحب ناصر القوات عام 1967 بعد إنفاق هائل، ووصفها لاحقًا بأنها "أكبر خطأ" في مسيرته، مما أضعف مصر اقتصاديًا وعسكريًا قبل حرب 1967.
4. حرب يونيو، المعروفة أيضًا باسم النكسة في 5-10 يونيو 1967، اندلعت بين مصر وسوريا والأردن ضد إسرائيل، حيث شنت إسرائيل هجومًا وقائيًا مفاجئًا في 5 يونيو أدى إلى تدمير معظم القوات الجوية المصرية في ساعات قليلة، ثم احتلال سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية وهضبة الجولان. كان ناصر قد بنى تحالفًا عربيًا قويًا، لكنه واجه فشلًا في التنسيق والاستعداد، مع حشد مصري يصل إلى مليون جندي. النتيجة كانت هزيمة مدوية عسكريًا وسياسيًا، مع خسائر هائلة بلغت 21,500 قتيل عربي، أدت إلى استقالة ناصر المؤقتة التي رفضها الشعب، وصدمة نفسية عميقة للعالم العربي.
متى تصحو العقول المغيبة؟
متى تفيق العقول الساذجة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق