التيجـــــان الملكـــــية فــي مصــــر القديمـــــة (الصـــورة والرمــــزيـــة)
د/ نــــــزيه سليــــــمان .
في المجتمع الذي يذهب الجهد الاكبر لأفراده في توفير الطعام والثروة، وتعلو قيمة الطعام على قيمة الكتب! فلا تبحث فيه عن عقول البشر.
ومنذو عصور مصر الاولى دفع المصريين ارواحهم لضمان توحد البلاد وتنظم صفوفها، واصبح واضحا اهمية كون القطرين في وحدة وتعاون.
وغير ذي بعيد عن ذلك وبعد اتحاد اقاليم الجنوب اصبح للجنوب تاجه الخاص الذي يرتديه ملك الجنوب، وتكرر الامر نفسه في مملكة الشمال بعد اتحاد اقطارها واقاليمها فأصبح لها تاجها الخاص الذي يرتديه ملكها.
وبمرور الايام وتنوع الثقافة وظهور حاجة ماسة الى خلق شعار جديد وتاج يعلوى رأس الفرعون تعبيرا عن حدث بعينه او طقوس بعينها او ارضاء لاطراف السياسة المختلفة، اصبحا عندنا حصيلة من التيجان الجديدة.
وقد لعبت التيجان دورا بارزا في تدعيم السلطة الملكية في مصر، فبعد اتحاد المملكتين اصبح التاج المزدوج رمزا هام في مصر، معبرا عن امتداد سلطان الفرعون وتدعيما لنفوذه على كلا القطرين، وتدعيما لمبداء العدالة الاجتماعية والمساواة بين كافة انحاء البلاد وسكانها، واثباتا لأحقية الفرعون في حكم البلاد، كما لعب التاج دورا دينا هام فهو رابطة بين الملوك والمعبودات تضفي حماية على الفرعون وتثبت تاييد المعبودات له ولرعايتهم له، او تعبيرا عن انتصار الملك وقدرته على اعدائه وحماية بلاده وتأمين حدودها.
قد تكون التيجان في نظر البعض صور عادية او مجرد شارات ملكية او مجرد اقنعة تلبس, لكن بالتفحيص والقرأة نعرف ان وراء كل تاج قصة وأيام وبطولات الاف الجثث تتناثر في ارجاء الارض لترسم بدمها الذكي ملامح هذا التاج، او يقف وراء كل تاج عادة وتقاليد دينية وسياسية رصيخة في نفوس المصريين القدماء.
وعلى تنوع هذه التيجان الا اننا يمكننا اجمالها فيما يلي.
أ- التاج الابيض.
تاج الجنوب من اقدم التيجان الملكية الموجودة في مصر القديمة، ويرجع تاريخه الى عصور ما قبل الاسرات، وقد صور الملك نعرمر على صلايته الشهيرة وهو يرتديه، وذكرت الاسطورة المصرية أن اوزيريس هو سيد التاج الابيض والذي انتقلت وراثته فيما بعد الى حورس ثم الى الملوك المواليين لأوزيريس وحورس، والتاج الابيض عبارة عن تاج من الجلد على شكل قلنسوة دائرية طويلة للاعلى تنتهي بنهاية قروية في قمة التاج.
وبالنظر في تاريخ التاج نجد أن التاج ظهر الى الوجود بعد الكثير من المعارك الضارية التي قدها حكام الجنوب من اجل توحيد الجنوب وتنصيب ملك واحد على جميع اقطاره، البعض يومن بالوحدة والبعض الاخر لايريدها، ولكل وجهته وعلاته.
سقط الكثير من القتلى والجرحى في تلك الحروب العتيقة، انتشر الجوع والفقر في كثير من ربوع الجنوب، الى جانب المشاكل الاجتماعية والبيئية في ذلك العصر الموغل في القدم.
وبعد اتحاد مملكة الجنوب ظهر هذا التاج الابيض كرمز للجنوب، بيد أنه من المحتمل ان التاج أقدم من ذلك فقد يكون تاج أحد زعماء الاقاليم الاقوياء الذين فرضوا سيطرتهم في الجنوب منذو عقود سابقة فغلب تاجه معه وتم تناقله وتوارثه حتى اصبح تاج للجنوب، او أن يكون التاج متوارث في الاقليم الثني الذي جاء منه ملوك الاسرة الاولى.
ب- التاج الأحمر.
تاج الشمال وهو ايضا من أقدم التيجان مثله مثل التاج الابيض، كما ذكرته الاسطورة المصرية القديمة ايضا، كما صور ايضا على لوحة الملك نعرمر وهو يرتديه، وهو عبارة عن تاج يعلوه من الخلف قضيب عمودي ثبت فيه عند بدايته عود مائل ينتهي بدائرة حلزونية.
وقد ظهر هذا التاج في عصور ما قبل الوحده كتاج للشمال بيد أنه يبدو انه كان اقدم من ذلك فقد يكون تاج لاحد الامراء المتغلبين في الشمال وتناقلته اسرته حتى اصبح رمز للشمال ككل بعد تغلب امراء هذا البيت على اهل الشمال وادخالهم في امرهم.
وكنظيره الابيض لبد وانه قد اريقت الكثير من الدماء من اجل اعلان هذا التاج رمزا للشمال وادخال اهل الشمال في ظل رعايته وطاعته.
ت- التاج المزدوج.
عرف هذا التاج في الاسرة الاولى بعد أن توحدت البلاد، وأصبح الملوك يرتدونه تعبيرا عن حكمهم للقطرين وتدعيمن لقيم المساواة بين اهل الشمال والجنوب، والتاج المزدوج عبارة عن التاجين الابيض والاحمر معا كما في الشكل، والتاج المزدوج شأنه شأن الكثير من العناصر المزدوجة في مصر القديمة يهدف الى:
- الرغبة فى تيسير الإشراف على موارد البلاد الواسعة ووصف الفرعون بكونه ملك مصر الجنوب والشمال في وقت واحد، ووجوب طاعته على الجميع.
- أو أن ملوك العصر العتيق حرصوا على أن يحتفظوا للشمال بشخصية أسمية ترضي أهله وتنسيهم أنهم ذابوا في وحدة البلاد الكبيرة.
- حرص الملوك على اظهار المساوة بين سكان البلاد جميعا وتوفير الحماية والرعاية لكلا المملكتين القديمتين وهذا ماظهر جليا في نقل العاصمة الى منف.
ولم تكن ازدواجية التاج فقط هي العامل الواحيد الذي افرزته الوحدة، بل تجاوزته الى كثير من المعتقدات واللقاب والمباني والهيئات ومن هذا المنطلق نلقي نظرة على اثر اتحاد القطرين على المصري القديم.
خلال عصر ما قبل الأسرات، نقلت مسميات بعض المدن و ألهتها المحلية، من الشمال إلى الجنوب، مثل مدينة عين شمس (هليوبوليس) في الشمال، وإلهها المحلي حور، نقل مسماها إلى الجنوب، فى مدينة (عين شمس) أرمنت وإلهها المحلي حور أيضاً.
وفي عصر بداية الأسرات عرف الملك بمجموعه من الالقاب، من بينها لقبان حملا في مفهومهم معنى ازدواجية الارض التي جمعتها وحدة البلاد، وهما:
1- لقب "نبتي" أو السيدتان نبتي ، وهو لقب مزدوج فالسيدتان عبارةعن شكل تصويري لأنثى النسر معبودة "نخبت" عاصمة الجنوب ، و الصل "واجيت" معبودة "بوتو" عاصمة الشمال وكل من المعبودتين ترتكز على سلة رمزاً للملكية، ونبتي اي التاجان الأبيض رمز الجنوب والأحمر رمز الشمال.
2- لقب "نسوت بتي" وهو عبارة عن شكل تصويري لنبات السوت رمز الجنوب والنحلة رمز الشمال أي أن الملك يسمى صاحب نبات السوت والنحلة، دلالة على سيطرته على كل من الجنوب والشمال.
وكان الملوك منذ العصر الطيني يحتفلون بالتتويج، ويجرى الاحتفال فى ثلاث مراحل.
- ظهور الملك مرة بتاج الجنوب ومرة بتاج الشمال على طريق صاعد.
- ظهور الملك بالتاج المزدوج ودق أوتاد فى الأرض، وعلى جانبيها يوضع نباتا السوت والبردي، رمزي الشمال والجنوب.
- الطواف حول الجدار.
و في طليعة ما تواتر يوجد حدث له اكبر الأثرعلى الديانة المصرية القديمة، إذ اتحدتا مملكتا مصر العليا والسفلى، لتكونا دولة واحدة، صار مقر حكمها منف، وأصبحت هذه الدولة ذات صبغة سياسية موحدة وعقيدة دينية مزدوجة، كونت عقيدتا منف و هليوبوليس نواتها الأولى.
لقد تخيل المصري القديم للسماء صورتان، بقرة و آمرأه، ثم جعلوا الأرض نفسها عبارة عن جزءين "أرض حمراء" و "أرض سوداء"، و جعلوا من النيل إلهاً مزدوجاً مثلوه غالباً وهو يقوم بتوحيد القطرين، كما صوروا الشمس بينما تتعاون الهة الجنوب والشمال على رفعها.
وبما أن الملك يضع على رأسه تاجان، فقد أعتبر التاجان كمعبودتان حاميتان للملك، أي أن الملك يحتمي فى الجنوب بالمعبودة "نخبت"، وفى الشمال بالمعبودة "واجيت" مما يعطي له صبغة شرعية فى حكم الجنوب والشمال.
وفي كتاب الموتى، (نصوصه مجموعة من نصوص شخص يدعى "إني") نجد فى اللوحة الواحدة والثلاثون، (الفصل 125) منظر يوضح قاعة تسمى قاعة العدالتين وبها إثنين وأربعين معبودا يمثلون مقاطعات الجنوب والشمال، وللقاعة بابين، ومن بين المعبودات معبود يتوجه إليه "إني" بقوله (ياأيها الأسد المزدوج الذي بزغ من السماء) I rwty pr m pt ) ، وفى اللوحة الثانية يظهر قرص الشمس فى أعلى الصورة ترفعه يدان، واليدان خارجتان من رمز الحياة "عنخ anx " المرتكز على عمود "جد " .
الجنوب والشمال:
لقد ظل لقب "حاكم الجنوب والشمال "nswt bty مقترناً بأسماء الملوك المصريين فى فترات الدول الثلاثة "القديمة و الوسطى والحديثة":
ولم تقتصر فكرة وحدة الجنوب والشمال على الأسماء الملكية فقط بل تعداه إلى ألقاب أخرى مثل:-
"مدير العرشين في البيتين" . "
& & & xrp nsty m prwy .
ظهر هذا اللقب فى مقبرة "حب جفاI" مقبرة (رقم1) بجبانة أسيوط "من عهد الملك سنوسرت الأول"، وكلمة prwy هنا تعنى القصر، وإن الإزدواجية فيها تأتى من كون الملك يحكم مصر العليا ومصر السفلى .
ثم تكررت صيغة xrp nsty فى صيغ أخرى مثل xrp nsty Hr mAa pr nsr .
"مدير العرشين فوق منصة مقصورة الشمال" وردت هذه الصيغة فى مقبرة الحاكم "أمنمحات " (مقبرة رقم2) فى جبانة بنى حسن "من عهد سنوسرت الأول"، و xrp nsty m (iA) t Hb-sd tpy "مدير العرشين فى وظائف عيد سد الأول" و xrp nsty Smaw TA-mHw "مدير عرشى الجنوب والشمال".
"كاهن تاج الجنوب وتاج الشمال" ، Hm nTr n Sma-s mH-s "كاهن تاج الوجه القبلى وتاج الوجه البحرى" حمل هذا اللقب الكاهن "حتب" فى بداية الأسرة الثانية عشرة و الكاهن "سمتى" من عهد "الملك أمنمحات الثانى".
من الألقاب السابقة يتضح أن فكرت إزدواجية الجنوب والشمال، ظلت مسيطرة على الفكر المصرى فى جميع عصوره، وظلت فكرة إزدواجية الأرض يُعبر عنها فى العمارة المصرية القديمة، إلى جانب الازدواجية التى فرضتها أفكار آخرى، مثل العقائد الدينية، كما تكررت بعض المبانى فى الجنوب والشمال، وأيضاً داخل بعض المدن، مثل مبانى الإدارة المختلفة ومن ذلك:
- الخزانة المزدوجة .
& & imy-r prwy-HD "رئيس الخزانة المزدوجة " يدل هذا اللقب على وجود خزانتان فى مصر وهما بيتا المال pr-HD بيت الفضة"البيت الأبيض"& pr-dSr بيت الذهب "البيت الأحمر"، " و اختص البيت الأبيض بضرائب ودخل الجنوب، واختص البيت الأحمر بضرائب ودخل الشمال.
وقد فُسِرت هذه الازدواجية بإحدى ثلاث فروض:
1- الرغبة فى تيسير الإشراف على موارد البلاد الواسعة بتوزيع مسئولية هذا الإشراف على إدارتين كبيرتين، تختص إحداهم بموارد الصعيد والأخرى بموارد الدلتا.
2- أو أن ملوك العصر العتيق حرصوا على أن يحتفظوا للشمال بشخصية أسمية ترضي أهله وتنسيهم أنهم ذابوا في وحدة البلاد الكبيرة، ولهذا أفردوا لهم بيت مال خاص نسبوه إلى اللون الأحمر، رمزا فيما يحتمل إلى لون تاجهم القديم.
3- أو أن البيتين كان لهما وجودهما المستقل فعلاً قبل توحيد البلاد، فأبقى الملوك عليهما مراعاة للتقاليد التي حتمت الاحتفاظ بالتاجين والانتساب إلى الربتين والشعارين.
كما كانت لطول المساحة المسكونة فى مصر والتي تقع على ضفتي النهر أثرهما فى تأكيد وجود بيتي مال فى مصر، نظرا لبدائية المواصلات والتنقل وتسهيلاً لحركة العمل فى جمع الضرائب وصرف المال فى المشروعات والإنشاءات. ،ولكن أياً ما كان من هذه الفروض فإن مايهم فى هذه الدراسة هو وجود زوج من إدارة الخزانة، واحدة فى الجنوب والأخرى فى الشمال كما ظهرت ألقاب أخرى تدل على هذا المعنى مثل imy-r prwy-HD nb tAwy "رئيس الخزانة المزدوجة الخاصة بسيد الأرضين" و imy-r prwy-HD pr-aA "رئيس الخزانة المزدوجة الخاصة بالفرعون ".
- الشونة المزدوجة :
تشير الدلائل إلى أن بداية ظهور لقب رئيس الشونة المزدوجة منذو عصر الأسرة الرابعة، & imy-r Snwty "رئيس الشونة المزدوجة" ظهر هذا اللقب أثناء عصر الدولة الوسطى والحديثة كما ظهرت عدة ألقاب أخرى خاصة بالشونة المزدوجة مثل imy-r Snwty n nb tAwty "المشرف على الشونة المزدوجة الخاصة بسيد الأرضين"،ولقب imy-r Snwty wr n nswt "المشرف الأعلى على شونة الملك المزدوجة"، ولقب imy-r Snwty n nb tAwy m Iwnw mHyt "المشرف على الشونة المزدوجة الخاصة بسيد الأرضين فى أنو الشمالية" ، imy-r Snwty nTr "المشرف على شونة الإله المزدوجة" ، imy-r Snwty n Hr bHdty "المشرف على الشونة المزدوجة للإله حورس بحدتى"، imy-r Snwty n Imn "المشرف على الشونة المزدوجة للإله آمون".
ث- تاج الشوتي
عبارة عن ريشتان بينهما قرص الشمس وتعتمدان على قرانا كبش، والريشتان اما يكونان للصقر حورس وهما مستقيمتان طويلاتان ومخروطيتان قليلا من اعلى، أو ريشتا نعام مموج في قمته ومفلطح عند قاعدته، ويسمى بريش "عنجتي" نظرا لارتباطة بالمعبود المصري عنجتي، وهذا التاج من اكثر التيجان الملكية ارتباطا بالمعبودات، فالريشتان تعبيرا عن القوة الكونية والعدالة والسحر والسرعة والقوة، كما ترمزا للافقين الشرقي والغربي والقطرين الجنوبي والشمالي، وقد ظهر هذا التاج لأول مرة في الاسرة الرابعة.
ج- تاج الآتف
هو تاج ارتبط في فكر المصر القديم بعبادة اوزير، وهو عبارة عن التاج الآبيض مع ريشتي نعام وقرني كبش، وبداية ظهورة على الآثار في عصر الاسرة الرابعة حيث صور على رأس صقر كتب فوقه الآسم الحوري للملك سنفرو، على محفة زوجته حتب حرس والموجودة في المتحف المصري، وأول التماثيل التي وجدت وقد نحتت وهي ترتدي تاج الاتف هو تمثال الملك "ساحورع" من الآسرة الخامسة، وهو تاج يوازي التاج المزدوج ، في القوة الملكية واضفاء الشرعية الملكية وله تاثير قوي في الفكر المصري القديم.
ح- التاج الآزرق . تاج الخبرش
تاج الخبرش من التيجان التي ظهرت في عصور مصر الاحدث حيث يعد ظهوره في الاسرة السابعة عشرة وله اهمية حربية حيث صور الملوك وهم يرتدونه وقت الحرب، ويعبر تاج الخبرش عن القوة الملكية وقوة الفرعون الحربية، وكان الفرعون يرتدي تاج الخبرش في مواكب النصر ووقت الحروب، وصور الفرعون بالتاج الازرق في كثير من المناظر والتماثيل تعبيرا عن قوة الفرعون الحربية وتفاني الفرعون في الدفاع عن بلاده وحمايتها.
التيجان الملكية لم تكن مجرد تيجان تعلو الرؤس وانما هي ايام وكفاح وافكار ومعتقدات صنعت حضارة عريقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق