Pages

الاثنين، 15 سبتمبر 2025

ماذا يحدث في فنزويلا وحقيقة الصراع الأمريكي الفنزويلي

القصة أبعد بكثير من أرقام التضخم أو صور طوابير الخبز أو حتى انتخابات مشكوك في نزاهتها ما يحدث في فنزويلا هو صراع عميق على مفهومي الهيمنة والسيادة. الهيمنة هنا ليست مجرد تفوق عسكري أو اقتصادي، بل هي القدرة التي تمتلكها قوة عظمى على صياغة القواعد التي يسير بها العالم وإجبار الآخرين على الالتزام بها حتى من دون غزو مباشر.

الصراع الأمريكي الفنزويلي


في هذه اللحظة التاريخية، تبدو فنزويلا وكأنها تعيش في قلب اختبار عالمي: إلى أي مدى تستطيع دولة من الجنوب أن تحافظ على سيادتها أمام إمبراطورية اعتادت أن تعيد اختراع أدواتها كلما واجهت مقاومة؟

في سبتمبر 2025، يعيش الفنزويليون واقعا لا يمكن وصفه إلا بأنه حرب غير معلنة. التضخم تجاوز 180% بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي (IMF)، مع توقعات قاتمة بوصوله إلى %530 بنهاية العام. الأرقام الجافة تتحول في حياة الناس إلى مأساة يومية الرواتب تتبخر قيمتها خلال أسابيع، والسلع الأساسية تختفي من السوق أو تُباع بأسعار لا تطالها يد الفقراء.

وراء كل ذلك تقف العقوبات الأميركية التي فرضت منذ 2017، والتي كبدت الاقتصاد خسائر تقدر بـ 226 مليار دولار وفق مركز أبحاث CEPR. وفي البحر الكاريبي، تنتشر بوارج أميركية تحت شعار "مكافحة المخدرات". لكن خلف هذا العنوان تختبئ سياسة ردع واضحة: إبقاء فنزويلا محاصرة بحريا وإظهار أن الإمبراطورية قادرة على تحويل التوتر الاقتصادي إلى حصار عسكري في أي لاحظة.

لفهم لماذا تُصرّ واشنطن على إخضاع فنزويلا، علينا أن نعود قرنين إلى الوراء. ففي عام 1823 أعلن الرئيس الأميركي جيمس مونرو ما عرف لاحقًا بـ مبدأ مونرو: لن يُسمح لأي قوة أوروبية بالتدخل في نصف الكرة الغربي. تحوّلت أميركا اللاتينية منذ ذلك الحين إلى "حديقة خلفية"، تُدار وفقًا لمصالح واشنطن لا خيارات شعوبها.

هذه القاعدة لم تبق حبرًا على ورق. في غواتيمالا عام 1954، أطاحت وكالة الاستخبارات المركزية بحكومة جاكوبو آربنز لأنه تجرأ على نزع أراضي شركة "يونايتد فروت". في تشيلي عام 1973، ساعدت واشنطن انقلاب بينوشيه ضد الرئيس المنتخب سلفادور أليندي، وكتب هنري كيسنجر عبارته الشهيرة: "لن نقف متفرجين بينما يرى بلد بأكمله أن بإمكانه أن ينتخب حكومة شيوعية بمسؤولية. " وفي بنما عام 1989، غزت الولايات المتحدة العاصمة لإسقاط نورييغا تحت شعار الحرب على المخدرات"

من بين كل الموارد التي تثير شهية الإمبراطورية، يبقى النفط هو الجوهر. تمتلك فنزويلا أكبر احتياطي مثبت في العالم، يتجاوز 300 مليار برميل. لكن هذه الثروة لم تتحول إلى تنمية أو قوة ناعمة، بل إلى لعنة. هذا ما يُعرف بـ لعنة الموارد المفارقة أن امتلاك ثروة طبيعية ضخمة قد يجلب التدخل الخارجي والصراعات الداخلية بدلا من التنمية المستقلة.

في عهد هوغو تشافيز، جرى استخدام النفط كأداة لإعادة توزيع الثروة داخليا وتمويل برامج اجتماعية، وأيضًا كرافعة لتحالفات إقليمية ضد الهيمنة الأميركية. لكن مع نيكولاس مادورو وجدت واشنطن فرصة لإعادة الإمساك بالورقة: عقوبات على صادرات النفط تجميد للأصول في بنوك دولية، ومنع الشركات العالمية من التعامل مع شركة النفط الوطنية.

هكذا تحوّل النفط من رافعة للسيادة إلى أداة للابتزاز، من مصدر للقوة إلى سبب للعقاب.

العقوبات تُسَوَّق دائماً كوسيلة "سلمية" للضغط السياسي، لكن حقيقتها أنها شكل من أشكال الحرب. حين كتب كيسنجر في تشيلي 1973 "اجعلوا الاقتصاد يصرخ"، كان يؤسس لوصفة باتت تُستخدم في كل مكان: تجفيف للعملة، تعطيل للمصارف، عزل مالي، وخنق للإنتاج.  

في فنزويلا، تسببت هذه السياسة بانهيار العملة ونقص حاد في الغذاء والدواء. هذا هو جوهر الحرب غير التقليدية: لا تحتاج قصفاً جوياً لتخلّف ضحايا، بل يكفيها أن تبقي المستشفيات فارغة من الأدوية والمصارف خاوية من الدولارات.

خروج 7.9 مليون فنزويلي من بلدهم ليس مجرد إحصاء. إنه تفكك للنسيج الاجتماعي وتحويل للجسد البشري ذاته إلى أداة سياسية. هذه الظاهرة تُسمى في الأدبيات السياسية تسييس الهجرة: أي تحويل معاناة اللاجئين إلى ورقة ضغط.


في واشنطن، تُقدَّم هذه المأساة كدليل على "فشل الاشتراكية"، وتُستخدم في الحملات الانتخابية الإثارة الخوف من "غزو المهاجرين". بل حاولت بعض الإدارات تفعيل قوانين قديمة مثل "قانون الأعداء الأجانب" لترحيل الفنزويليين، قبل أن توقف المحاكم ذلك.


الهجرة هنا ليست نتيجة عرضية، بل جزء من استراتيجية الضغط على الدولة والمجتمع.

القضية إذًا ليست فقط فنزويلية. إنها اختبار لمكانة الولايات المتحدة في نصف الكرة الغربي. إذا صمدت فنزويلا، فإن كوبا ونيكاراغوا وبوليفيا قد تجد في ذلك إلهامًا لتحدي الإمبراطورية. وإذا فشلت واشنطن في إخضاعها، فإن الصين وروسيا و BRICS سيكسبون مساحة جديدة في "الحديقة الخلفية".


هذا ما يسميه بعض الباحثين أفول الإمبراطورية: اللحظة التي يبدأ فيها المركز المهيمن بفقدان قدرته على فرض القواعد في أطرافه القريبة، قبل أن يمتد التراجع إلى مسارحه الأبعد.

الإجابة على سؤال " ماذا يحدث في فنزويلا؟" تكشف أن الإمبراطورية لا تحتاج إلى احتلال مباشر لتفرض سيطرتها. يمكنها أن تعيد اختراع استعمارها عبر أدوات جديدة: العقوبات الإعلام التحكم بالموارد عسكرة البحار، وتسييس الهجرة.


ما يحدث في فنزويلا هو تذكير بأن النظام العالمي - كما وصفه إيمانويل واليرستاين في نظريته عن النظام العالمي الحديث - مبني على تقسيم ثابت بين مركز وأطراف. والمركز لا يسمح للأطراف بأن تتحول إلى كيانات مستقلة بحق.


يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن لدولة جنوبية أن تحيا مستقلة في عالم تصر الإمبراطورية فيه على إعادة ابتكار أدواتها كل مرة؟ أم أن الاستقلال الحقيقي لا يتحقق إلا إذا تغير شكل النظام عالمي نفسه؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق